عبد الله السناوي يكتب: رسائل كركوك العاجلة
بعض التحولات فى موازين القوى تكتسب قيمتها من حجم آثارها وتداعياتها، كأنها انقلاب استراتيجى تختلف الحسابات بعده عما كان قبله.
وقد كان حسم الصراع على كركوك، المدينة العراقية المتنازع عليها والغنية بالنفط، فى غضون ساعات دون قتال حدثا مدويا برسائله للإقليم كله.
أول رسالة ـ أن مشروع تقسيم العراق إلى دويلات عرقية ومذهبية تقوض وضربت ركائزه إلى حد بعيد.
هواجس التقسيم والانفصال تراجعت لكنها لم تغادر المكان.
ذلك الاستنتاج يقتضى نظرة أخرى تتجاوز قوة السلاح إلى حساب السياسة.
فهناك مشكلة كردية عميقة ومؤسسات الدولة معتلة والتعقيدات فى بنية المجتمع تنذر بمصاعب لا يمكن مواجهتها دون مصالحات واسعة على أسس دستورية وسياسية تضمن الشراكة الوطنية وحقوق المواطنة وشفافية المال العام والتحكم فى حركة السلاح.
الأطراف العراقية بلا استثناء واحد ـ تقريبا ـ تردد مثل هذه العبارات بصياغات مختلفة والمصير الأخير معلق على درجة الجدية فى إدراك مواطن الخلل والعمل على تجاوز منزلقاته.
هذه ليست مسألة سهلة بأى حساب واقعى ينظر فى التعقيدات والتداخلات، التى تفاقمت إثر الاحتلال الأمريكى لبغداد عام (٢٠٠٣).
فى المجال العام مبادرات لمصالحات وطنية واسعة تؤكد وحدة العراق واستقلال قراره لكنها تفتقر ـ حتى الآن ـ إلى آليات واضحة تضمن جدية الالتزام.
من أكثر العبارات شيوعا فى الخطاب العراقى المناهض لاستفتاء الانفصال أنه تجاوز الدستور، الذى ينص على وحدة أراضى الدولة.
التأسيس الدستورى لوحدة البلاد ضد أى مشروع للتقسيم والانفصال، أو أى تدهور فى بنيتها الداخلية، مسألة حاسمة.
المشكلة فى العالم العربى ـ مصر بالذات ـ أن أحدا لا يحترم الدستور ويلتزم بمقتضى نصوصه وروحه، رغم أن مثل هذا الاحترام أول متطلبات الدولة الحديثة.
رغم أية ملاحظات جوهرية على الدستور العراقى إلا أن احترامه طوق إنقاذ لبقاء البلد موحدا.
ثانى رسالة ـ عمق الأزمة الداخلية الكردية.
هزم «المشروع الانفصالى» من داخل إقليم كردستان قبل أن تتحرك الأرتال العسكرية العراقية وتحكم قبضتها على كركوك بكل قواعدها ومطاراتها ومنشآتها النفطية والعامة، فضلا عن استعادة جميع المناطق المتنازع عليها التى شملها الاستفتاء.
بتفاهمات مسبقة، حسب الشهادات والمعلومات المتواترة، سلمت قوات البشماركة، التى تتبع الاتحاد الوطنى الكردستانى، كل هذه المواقع دون قتال.
نظريا: البشماركة تدخل فى المنظومة العسكرية العراقية.
عمليا: هى جيش خاص بالإقليم، لكنه يفتقد التماسك التنظيمى، فلكل حزب كردى ميليشياته الخاصة.
بافتراق الرؤى والتصورات وعمق الانتقادات المتبادلة بين الحزبين الكرديين الكبيرين «الحزب الديمقراطى» ـ الذى يتزعمه رئيس الإقليم «مسعود البرزانى» وله صلات قديمة مع إسرائيل، و«الاتحاد الوطنى» ـ الذى أسسه الرئيس العراقى الراحل «جلال طلبانى» وله صلات تاريخية مع الجار الإيرانى، تشققت «وحدة البشماركة» وتبدت على السطح الساخن اتهامات متبادلة، ليس أقلها الخيانة.
الصراعات متوارثة، فقد انشق الثانى عن الأول.
الشكوك عميقة، فحزب «البرزانى» يسيطر على أربيل ويمسك وحده بمقاليد السلطة وعوائد النفط ويتهمه معارضوه بأن تجربته فى حكم الإقليم، التى امتدت لأكثر من ربع قرن، لم تساعد على تحسين أحواله وأنه محض ديكتاتور صغير أمم الحياة السياسية ولم يترك منصبه رغم انقضاء مدته وعطل الحياة النيابية بالكامل.
وحزب «طلبانى» يكاد يهيمن على السليمانية، وهى محافظة كردية مهمة، وحضوره السياسى والعسكرى فى كركوك المتنازع عليها أبرز وأقوى، وهو متهم ـ من قبل الحزب الآخر ـ بالخيانة نتيجة قرار منفرد اتخذه انتهت بانسحاب البشماركة بالطريقة التى جرت.
المثير فى القصة أن القوات التابعة لـ«البرزانى» لم تطلق رصاصة واحدة، لا قاتلت ولا دافعت، واستسلمت تماما لحقائق القوة مكتفية بإطلاق الاتهامات.
بدا أن جميع الأطراف الإقليمية والدولية حسمت أمرها على ترك «البرزانى» وحيدا أمام تقدم القوات العراقية.
باستثناء إسرائيل لم يؤيد الاستفتاء على الانفصال أحد ولم يكن بوسع الدولة العبرية أن تفعل شيئا.
على أى أساس راهن «برزانى» على تصعيد الأزمة مع الحكومة المركزية ومع الجاريين الإقليميين التركى والإيرانى؟
هذا السؤال يشغل الأكراد قبل غيرهم.
هناك مؤشرات على احتقانات تتصاعد واحتمالات مواجهات بين الفرقاء الأكراد مع خسارة ما اكتسبوه من أرض أثناء المواجهات مع «داعش».
بالعودة إلى أوضاع (٢٠٠٣) خسارة «البرزانى» لا تحتمل وقدرته على البقاء بين قوسين كبيرين.
ثالث رسالة ـ تراجع احتمالات تقسيم دول المشرق العربى، وأهمها سوريا، وأية دول عربية أخرى.
تقويض المشروع الانفصالى فى العراق يفضى بالتبعية إلى تقويض مماثل لأية مشروعات انفصالية محتملة.
كألعاب الدومينو ما إن يسقط حجر حتى تتبعه أحجار أخرى.
إذا مضى مشروع انفصال كردستان العراق إلى نهايته فإن المصير نفسه سيكون مرجحا فى سوريا حيث ترسم الخرائط بحسابات السلاح.
فالولايات المتحدة تحالف وتدعم وتخوض معارك مشتركة مع قوات «سوريا الديمقراطية» بأغلبيتها الكردية لحسم معركة الرقة، عاصمة دولة الخلافة، وتستخدم نفس القوات لقطع الطريق على تقدم الجيش السورى فى دير الزور.
هذه لم تكن مناكفات ميدانية بقدر ما هى محاولة بالسلاح لرسم خرائط على الأرض قبل التوصل إلى أية تسوية سياسية.
كلا اللاعبين الإقليميين الكبيران الإيرانى والتركى ناهض اللعبة إذ إن نتائجها تهدد أمنهما القومى على نحو خطير.
كان لذلك دور حاسم فى إنهاء الانفصال المحتمل لكردستان العراق خشية أن تمتد اللعبة إلى سوريا.
أحد الأسباب الجوهرية لتصدع العلاقات بين واشنطن وانقرة عدم اطمئنان الأخيرة لأى تعهدات أمريكية بشأن احتمالات تأسيس دولة كردية بالشمال السورى على الحدود التركية، حيث تقطن أقلية كردية كبيرة تتجاوز الـ(٢٠) مليونا فى بعض التقديرات، وهو ما يفضى إلى تفككها كدولة إقليمية كبيرة.
رابع رسالة ـ أن مشروع التحالف التركى الإيرانى العراقى قد يأخذ مدى أوسع بعد أن تمكن فى وقت قياسى بإجهاض الانفصال الكردى فى العراق.
باليقين الدور الإيرانى أكبر فى حسم الصراع على كركوك، لكن تركيا ـ من ناحية استراتيجية ـ ربحت من مثل هذا التحالف.
بذات القدر فإن دولا عربية كثيرة مهددة بـ«دومينو التقسيم» ربحت دون أن تكون طرفا له دور، أو تأثير، وأحيانا أثارت شكوكا حول أين تقف بالضبط؟
كانت إسرائيل الخاسر الأكبر فى إجهاض مشروع الانفصال.
فقد راهنت على تفكيك العالم العربى وإعادة بناء شرق أوسط جديد تلعب فيه دور المركز بإدارة تفاعلاته ومصالحه.
بذات التوقيت خسرت رهانا آخر على نزع سلاح المقاومة الفلسطينية تحت غطاء المصالحة بين فتح وحماس لتجاوز الانقسام القاتل، والدور المصرى حاضر وفاعل فى الملف.
السؤال الأهم فى كل تلك الرسائل العاجلة: أين مصر ـ بالضبط ـ فى النظر إلى توازنات القوى وتحالفاتها المستجدة فى الإقليم؟
بأى حسابات للمصالح الاستراتيجية فإيران وتركيا ليستا عدوتين ـ أيا كانت مساحات الاختلاف، وإسرائيل ليست صديقة ـ أيا كان ضجيج الدعايات.
أسوأ ما يحدث أننا نعطى لإسرائيل أسبابا للقوة لا تستحقها وننزع عن أنفسنا أية قدرة على المبادرة تجاه الإقليم وأزماته.
أرجو أن نقرأ بشىء من التأمل رسائل كركوك العاجلة.